qistas blog logo
مدونة الباحث القانوني
 
 
 
 
القضاء والاجتهاد

القضاء والاجتهاد

 

التطبيق القانوني والاجتهاد القضائي :

يستند القضاء في الأنظمة القانونية اللاتينية في أحكامه بشكل أساسي إلى النصوص التشريعية، ويفترض أن يقتصر دوره على مجرد تطبيق النصوص القانونية . وبالتالي فإن دور محاكم الدرجة العليا الأساسي في هذه الأنظمة، ولاسيما محكمة التمييز/النقض، هو بالأساس دور رقابي وإشرافي وتصحيحي يكمن في التأكد من سيادة القانون من خلال حسن تطبيق النصوص التشريعية من قبل كافة المحاكم .

فإذا كان دور القضاء في هذه الأنظمة هو تطبيق النصوص، فماذا يقصد اذاً بالاجتهاد القضائي ؟ وكيف تمارس المحاكم على إختلاف درجاتها الإجتهاد ؟ ومتى يعتبر أن حكماً ما ينطوي على اجتهاد ؟

الاجتهاد وقطعية أحكام محكمة التمييز:

قد يقال أن كافة الأحكام القضائية تنطوي على الإجتهاد لما تتطلب من جهد فكري في محاولة إسقاط النصوص الكلية على الوقائع المتشعبة . فعلى الرغم من أن المشرع يتوخى البيان والوضوح في صياغة النصوص، الا أن الوقائع كثيراً ما تظهر عيوب النصوص وقصورها. وهذا مما يثير إشكاليات في تطبيق النصوص أو تفسيرها، ويتطلب “اجتهاداً” يتجاوز الاسقاط المباشر للنص الكلي على الواقعة الجزئية.

ولكن يلاحظ أنه في واقع الممارسة قلما يستخدم مصطلح الاجتهاد في الإشارة الى قرارات المحاكم غير القطعية، بل يقتصر على أحكام محاكم التمييز . فمحكمة التمييز عند تأييدها أو نقضها لحكم ما لمحكمة الاستئناف لاتتعامل معه من حيث أنه اجتهاد، ولكن بصفته محاولة لإعمال النص، أو تطبيقه، أو تفسيره. قد تخطىء أو تصيب ، وبالتالي تستوجب من محكمة التمييز إما النقض، أو التأييد.

وتستخدم محكمة التمييز في تأييدها، أو نقضها لمحكمة الاستئناف عبارات تنفي عن هذه الأحكام صفة الاجتهاد منها على سبيل المثال لا الحصر: “إن ماتوصلت المحكمة إليه يخالف ما استقر عليه الإجتهاد ، إن محكمة الاستئناف قد أصابت ، إن محكمة الإستئناف قد جانبت الصواب، ..” .

وبالتأكيد فإن لسان حال محكمة التمييز لا ينفي صفة الاجتهاد موضوعياً عن أحكام محاكم الدرجات السابقة التي كثيراً ما تنطوي على اجتهاد مشروع في تفسير وتطبيق النصوص. إلا أن هذا العرف اللغوي يعكس تمسك محكمة التمييز بصلاحيتها الرقابية الإشرافية المطلقة، وكذلك بالصفة القطعية لأحكامها، والتوجه لإزالة أي شبهة خلافية تشوب أحكامها مقابل محاكم الدرجات السابقة .

ويلاحظ أن محكمة التمييز لا تشير الى أحكامها نفسها بصريح العبارة بأنها اجتهاد، وإنما بصفتها قرارات صائبة حاسمة للخلاف كما في أقوالها ” وإنا نرى، وفي ذلك نجد …” .

الإجتهاد بين قطعية الأحكام والخلاف المشروع :

ومن جهة أخرى فمن المعروف أنه يشار الى أحكام محاكم التمييز من قبل المحاكم الأخرى بإختلاف درجاتها، وكذلك من قبل المحامين والباحثين، على أنها إجتهادات، لاسيما حين تُعتمد كسوابق في مسائل قانونية مستحدثة، أو شائكة لم تعالجها النصوص بطريقة واضحة أو حاسمة . وفي هذا السياق فإن استخدام مصطلح الإجتهاد بالإشارة الى أحكام التمييز إقراراً بالإختلاف النوعي لأحكامها، من حيث التصدي لمسائل قانونية خلافية تتطلب التوسع في تفسير النصوص، أو إعمالها، أو إنشاء مبادىء مستحدثة في غياب النص. فيعتبر هنا أن هذه الأحكام ليست مجرد إسقاط للنص على الوقائع، بل تتجاوز ذلك لتدخل في حيز الإنشاء، من خلال سد الهوة بين النصوص الكلية والوقائع الجزئية، عن طريق التوسع في تفسير المعاني والمقاصد واستقرائها حيث يلزم .

وفي نفس الوقت فإنه يشار الى قرارات محاكم التمييز على أنها اجتهادات من حيث أنه – وعلى قطعيتها وأهميتها الإرشادية مقابل أحكام الدرجات السابقة– تشكل “إجتهادأً” أي هنا بمعنى رأياً قابلاً للخلاف و”الرجوع” عنه بإجتهاد آخر. فكونها قطعية من حيث أنها تحسم الخلاف في قضية ما، لا يكسبها قطعية معرفية مستقبلاً في مواجهة اجتهادات لاحقة .

وسنقوم في سلسلة من المقالات اللاحقة برصد دقيق لظاهرة الإجتهاد القضائي في أحكام التمييز في سياقات مختلفة لفهمها وتأطيرها ورصد أثرها على النظام القانوني والقضائي ودورها في تعزيز سيادة القانون ودفع التطور التشريعي !