qistas blog logo
مدونة الباحث القانوني
 
 
 
 
إلزامية الإجتهاد والتدرج القضائي

إلزامية الإجتهاد والتدرج القضائي

 

الإجتهاد و التدرج القضائي

تعرضنا في مقالة سابقة إلى مفهوم الإجتهاد في الأنظمة اللاتينية والمحاكم الأردنية على وجه الخصوص (https://bit.ly/2k3vzNC). وأشرنا إلى أن هذه الأنظمة تعتبر أن دور القضاء من حيث المبدأ يقتصر على تطبيق النصوص التشريعية، إلا أن الواقع العملي يتطلب من المحاكم ممارسة نوع من الإجتهاد يتجاوز الإسقاط للنصوص إلى إنشاء قواعد جديدة لسد الهوة بين النص والواقع، سواء لغموض النص أو قصوره أو غيابه.

وكذلك أوضحنا بأنه على الرغم من أن المحاكم بكافة درجاتها لا بد أن تمارس الاجتهاد “الإنشائي”، إلا أن محكمة التمييز، لا سيما في هيأتها العادية -وفي لسان حال أحكامها- لا تتعامل مع أحكام الاستئناف قيد النظر لديها من حيث أنها اجتهادات بل مجرد قرارات تطبيقية أو تفسيرية تحتمل إما الخطأ وإما الصواب وبالتالي إما النقض أو التأييد. وهذا ” الحسم ” في التعامل مع قرارات محاكم الإستئناف يعكس دور محكمة التمييز الأساسي الرقابي وحرصها المشروع على الإستقرار في الأحكام والقضاء. إلا أنه ذلك ليس حسماً جوهرياً من حيث أن اجتهادات محكمة التمييز ذاتها قابلة للرجوع عنها من قبل محاكم التمييز الأخرى اللاحقة وليس لديها صفة القطعية المعرفية.

 وهذا مما يثير السؤال: إلى أي درجة تعتبر اجتهادات محاكم التمييز ملزمة على المحاكم الدنيا ولا سيما محكمة الإستئناف، وما هو الأساس النظري والتشريعي لهذه الإلزامية ؟

قطعية قرارات محكمة التمييز وأحقية محكمة الاستئناف بالاجتهاد

بداية فإن المشرع الأردني يؤكد على قطعية أحكام التمييز حيث نصت المادة (٢٠٤/ أ) من قانون أصول المحاكمات المدنية لسنة ١٩٨٨ وتعديلاته/منشورات قسطاس، بأنه ” لايجوز الطعن في أحكام محكمة التمييز بأي طريقة من طرق الطعن”. ومن هذه الناحية تحول قطعية أحكام التمييز دون إمكانية الإعتراض على قرار محكمة التمييز أمام أي محكمة اخرى سواء جاء قرارها مؤيداً أو ناقضاً للإستئناف . فإن محكمة التمييز هي نهاية المطاف في التدرج القضائي.

إلا أنه وعلى الرغم من نص المادة (٢٠٤)من قانون أصول المحاكمات المدنية، فإن المشرع في نفس الوقت يؤكد صراحة على أحقية محكمة الإستئناف بعدم الإمتثال لقرار محكمة التمييز إذا جاء ناقضاً لحكمها، حيث نصت المادة (٢٠٢ /أ) في ما يخص رد محكمة الإستئناف على نقض التمييز لحكمها على ما يلي : ” تتلو محكمة {الاستئناف}قرار التمييز بشأن قبول النقض أو عدم قبوله ثم تقرر قبول النقض أو الإصرار على الحكم السابق….” .وكما نصت المادة (9/أ/1) من قانون تشكيل المحاكم النظامية رقم 17 لسنة 2001 وتعديلاته/ م. قسطاس، على أنه ” .. وفي حالة إصرار محكمة الإستئناف على قرارها المنقوض، أو كانت القضية المعروضة عليها تدور حول نقطة قانونية مستحدثة، أو على جانب من التعقيد، أو تنطوي على أهمية عامة أو رأت إحدى هيئاتها الرجوع عن مبدأ مقرر في حكم سابق…” .وبناءً على هذا فإن لسان حال المشرع يقر بمشروعية “إجتهاد” الإستئناف من الناحية المعرفية وكذلك أحقية الإستتئناف في الإصرار على اجتهادها مقابل نقض محكمة التمييز وكذلك بتها النهائي في الحكم أيضاً. فمن الممكن جداً تصور حالات تقرر محكمة الاستئناف فيها عدم الامتثال للنقض ولا يعترض الطرف المعني وبالتالي يطبق فيها اجتهاد الاستئناف وليس التمييز.

التدرج القضائي وحسم النزاع

ومع الإقرار بالأحقية المعرفية والعملية لمحكمة الاستئناف في الإصرار على اجتهادها مقابل محكمة التمييز في حالة النقض (1)، إلا أن المشرع وضع آلية لحسم النزاع بشكل نهائي من خلال انعقاد محكمة التمييز بهيأتها العامة للبت في إصرار الإستئناف وبحيث يكون القول النهائي للهيئة العامة. فقد نصت المادة (٢٠٢/أ) من قانون أصول المحاكمات المدنية (إن قرار محكمة التمييز التي تنظر في قرار محكمة الإستئناف الرافضة للإمتثال يكون نهائياً وغير قابل للإعتراض). بينما حددت المادة(9/أ/1) من قانون تشكيل المحاكم النظامية رقم 17 لسنة 2001 وتعديلاته/ م.قسطاس، أن هذه الصلاحية في الحسم تعود خصيصاً إلى الهيئة العامة حيث نصت على أنه ( .. وفي حالة إصرار محكمة الإستئناف على قراراها المنقوض، أو كانت القضية المعروضة عليها تدور حول نقطة قانونية مستحدثة، أو على جانب من التعقيد، أو تنطوي على أهمية عامة، أو رأت إحدى هيئاتها الرجوع عن مبدأ مقرر في حكم سابق، فتنعقد هيئة عامة من رئيس وثمانية قضاة ).

وقد جاء القضاء مؤكداً على ذلك في الحكم رقم 819/2019 / تمييز /حقوق / هيئة عامة / م.قسطاس، حيث أيدت الهيئة العامة قرار الهئية العادية للتمييز في نقضها لحكم الإستئناف بشأن خصم الدية الشرعية من التعويض وأعادت القضية للإستئناف للإمتثال بقرار النقض بشكل قطعي وغير قابل للإعتراض. ومع ذلك أقرت بأحقية الإستئناف في ممارسة خيارها القانوني بعدم الإمتثال لقرار الهيئة العادية مع ضرورة الامتثال لقرار الهيئة العامة. ولكن من الجدير بالإشارة هنا أن القضاء أيضا أوضح أيضا أن أحقية محكمة الإستئناف في عدم الامتثال للنقض تقتصر على الحالات التي يتعلق النقض فيها بمسائل القانون و ليس بمسائل الواقع ووزن و تقدير البينات كما في الحكم رقم ٢١٨٧/٢٠١٩ /تمييز/حقوق/هيئة عامة/م.قسطاس.

وبناءً على ماسبق يتضح أن لسان حال المشرع والقضاء يقر بأن الأساس النظري لإلزامية قرارات التمييز حسب تدرج هيئاتها هو المنطلق العملي، وحرصاً على إستقرار القضاء وليس من المنطلق المعرفي . فإن المشرع يقر بمشروعية ” الإجتهاد ” لكافة درجات المحاكم ولكنه يعتمد آلية عملية لحسم النزاع.

وهنا يكمن سؤال آخر، إذا كان لسان حال القضاء والمشرع يقر بعدم الإلزامية ” المعرفية الجوهرية ” لقرارات التمييز على محاكم الإستئناف، فما هو مدى إلزامية هذه القرارات بصفتها سوابق على القرارات اللاحقة؟ وإلى أي درجة ومتى يجوز الاستئناف باجتهادات محاكم الاستئناف التي لم يتم نقضها بشكل نهائي؟ سنتصدى للإجابة على هذه التساؤلات في مقالة لاحقة عن حجية السوابق وإلزاميتها.

  1. من الجدير بالذكر أن المشرع سابقاً أكد فقط على قطعية أحكام التمييز المؤيدة لحكم الإستئناف حيث نصت المادة (٢٥٥)من قانون أصول المحاكمات الحقوقيةرقم ٤٢ لعام ١٩٥٢ وتعديلاته /م. قسطاس، على أن (كل حكم رفع إلى محكمة التمييز وأصدرت قراراها بتأييده يعتبر قطعياً لايقبل أي أعتراض أو مراجعة أخرى).إلا أن هذا القانون الغي وحل محله قانون أصول المحاكمات المدنية رقم 24 لسنة 1988.
  • للنظر في ضوابط إصرار محكمة الإستئناف على حكمها المنقوض ، انظر ،”ضوابط إصرار محكمة الإستئناف على حكمها المنقوض من قبل محكمة التمييز دراسة في قانون أحكام القضاء الأردني “، انيس منصور المنصور، أحمد علي العويدي، كمال عبد الرحيم العلاوين، نور عاكف الدباس / دراسات، علوم الشريعة والقانون، المجلّد43، ملحق3،2019   (https://platform.almanhal.com/Files/2/99090 ) .

تعرف على مزايا قسطاس التي تجعل بحثك القانوني أكثر ذكاءً وسهولة www.qistas.com