qistas blog logo
مدونة الباحث القانوني
 
 
 
 
القضاء والإجتهاد: بين التطبيق والإنشاء

القضاء والإجتهاد: بين التطبيق والإنشاء

 

  تقتصر وظيفة القضاء في الأنظمة اللاتينة  نظرياً على تطبيق النصوص التشريعية، ويقتصر الإجتهاد القضائي على الجهد المبذول في إسقاط القواعد والأحكام الكلية المستمدة من النصوص التشريعية على جزئيات الوقائع في النزاعات التي تعرض أمام المحاكم . إلا أن ممارسة القضاء في الواقع العملي تختلف. فعلى الرغم من فرضية شمولية القوانين وكليتها، فإنه كثيراً ما تجد المحاكم نفسها أمام وقائع لا تدخل في صريح النصوص التشريعية . ومع أنه لا اجتهاد في مورد النص ولكنه أيضا لا يجوز للقاضي أن يعتكف عن الحكم.  فالقاضي إن وجد نفسه أمام الهوة بين النص والواقع، أو واجه ارباكاً ما في النصوص يضطر الى الإجتهاد “الإنشائي” ، بمعنى الحكم بما هو خارج منطوق النص . وبطبيعة الحال تمارس كافة درجات المحاكم هذا النوع من الإجتهاد، إلا أنه متعارف على الاستئناس به عندما يصدر عن محاكم الدرجات العليا. ونحاول هنا – على عجالة –  إلقاء الضوء على طبيعة هذا النوع من الإجتهاد القضائي من خلال تحليل بسيط لبعض الأمثلة لأحكام التمييز في الأردن.

 (1) الإجتهاد القضائي في إدراج الحالات الخاصة أو استثنائها من عموم النص.

  قد ينص المشرع على قاعدة عامة ويترك للقضاء الإجتهاد في تحديد الحالات الخاصة التي يمكن إدراجها في مفهوم النص القانوني أو عمومه . وكمثال على ذلك الإجتهاد القضائي في ما يدخل ضمن مفهوم ” الأجر” الوارد بالمادة (2) من قانون العمل رقم (8) لسنة (1996) بأنه : ( كل ما يستحقه العامل لقاء عمله نقداً أو عيناً مضافاً اليه سائر الإستحقاقات الأخرى أياً كان نوعها …). وقد خطت محكمة التمييز العديد من السوابق القضائية لإدراج حالات ضمن مفهوم (الإستحقاقات الأخرى)، كما في القرار رقم 1137/ 2001/ تمييز/ حقوق/هيئة عامة/ م.قسطاس الذي اعتبر أن الخصم الممنوح من شركة الكهرباء بإشتراك الكهرباء الخاص بسكن العامل يدرج ضمن مفهوم الأجر، بينما استثنى القضاء في القرار أعلاه  مساهمة رب العمل لحساب العامل في صندوق الإدخار والضمان الإجتماعي والتأمين الصحي ضمن مفهوم الأجر .

وكمثال آخر، اجتهاد القضاء في تحديد حالات الفصل التعسفي، حيث أن المشرع نص على عدم مشروعية الفصل التعسفي في المادة (25) من قانون العمل المشار إليه أعلاه وأجاز بالحكم للعامل بالتعويض اذا تبين للمحكمة المختصة في دعوى أقامها العامل أن الفصل كان تعسفياً، وذلك دون تعريف حالات الفصل التعسفي بالتفصيل. وبالفعل فإن محكمة التمييز اجتهدت في أحكامها في تحديد الحالات، فاعتبرت مثلاً في قرارها رقم 2010/1985/ تمييز/ حقوق/ م.قسطاس أن فصل العامل نتيجة تصفية الشركة يعتبر فصلاً تعسفياً، بينما اعتبرت في قراراها رقم 684 /2002/ تمييز/ حقوق /م.قسطاس ان انهاء خدمات العامل عند بلوغه سن الستين لا يدخل في مفهوم الفصل التعسفي.

(2)  الإجتهاد القضائي بتقييد إطلاق النص العام .

يواجه القضاء أحياناً حالات يشكل فيها تطبيق النص على إطلاقه إرباكاً وتعارضاً مع روح النص أو مقصد المشرع  . وكمثال على ذلك الأصل العام في القانون الدولي والإتفاقيات الدولية بتمتع الممثل الدبلوماسي بحصانة دبلوماسية، كما في المادة (31) من اتفاقية فيينا للعلاقات الدبلوماسية عام (1961)  بأنه ( يتمتع الممثل الدبلوماسي .. بالحصانة القضائية المدنية.. ) . إلا أن محكمة التمييز في قرارها رقم 699/ 1990/ تمييز/حقوق/هيئةعامة/م.قسطاس قيدت الأصل العام وانشأت قاعدة مستحدثة بأن الحصانة الدبلوماسية ليست مطلقة و لاتشمل الدعاوى العمالية أمام القضاء المدني ولاتحول دون مقاضاة من يتمتع بالحصانة الدبلوماسية عن الحقوق العمالية لعماله، مؤسسةً بذلك سابقة استقر عليها القضاء كما في أحكام التمييز 1997/155و2019/825/ط و 2019/825/ تمييز/ حقوق  .

(3) الإجتهاد القضائي في غياب النص التشريعي .

يصادف القضاء وقائع تخرج بالكامل عن منطوق أو مضمون النص التشريعي فيضطر إلى الحكم بإنشاء قاعدة جديدة لضبط الواقعة المستحدثة.  وكمثال على ذلك المادة (35) من قانون أصول المحاكمات المدنية رقم (24) لسنة (1988) ، حيث أغفل المشرع بيان المحكمة المختصة بالفصل في نزاع بين محكمتين صلحيتين أو بين محكمة صلحية ومحكمة بدائية. وعند التصدي لهذه الحالة ــ اجتهدت المحكمة في القرار رقم 1999/374/تمييز/حقوق/م.قسطاس بأن المحكمة المختصة  هي محكمة الإستئناف التابع لها المحكمتين بالرغم من غياب النص، مؤسسةً ذلك على قاعدة الأفضلية والأولوية والإستنتاج  ومبدأ من يستطيع الأكثر يستطيع الأقل ومن يستطيع الأشد يستطيع الأخف. وقد كشفت هذه الواقعة والحكم المتعلق بها ثغرة تشريعية حيث تم لاحقاً تعديل المادة (35) من القانون أعلاه بتاريخ 2001/05/17 للنص على القاعدة المتعلقة بالحالة المذكورة.

(4) الإجتهاد القضائي بمضمون النص أو العرف  .

يجتهد القضاء كثيراً بإقرار مبادىء ومفاهيم عامة شبه بديهية ومع ذلك لم ينص عليها القانون صراحة . فعلى سبيل المثال ، اجتهدت محكمة التمييز في قراراها رقم 2017/2376/تمييز/حقوق/هيئة عامة/م.قسطاس معتبرةً أن توقيع الكفيل على صك العطوة العشائرية تحت عبارة  (كفيل الوفا) لايخرج عن كونه عقد كفالة ملزم، كون العبارة تشير الى مصطلح عشائري معروف من قبل الكافة بأنه التزام الكفيل حال اخلال المكفول بالتزاماته المادية.

وكمثال آخر، اجتهدت محكمة التمييز في قراراها رقم 2012/884/تمييز/حقوق/هيئةعامة/م.قسطاس حين حكمت بأن تبليغ المحامي بالإلصاق بحجة عدم وجوده في مكتبه في الفترة الصباحية يعتبر باطلاً ولايرتب أثراً قانونياً، حيث أن المحامي وكما استقر اجتهاد القضاء عادةً ما يكون في المحاكم لإداء عمله في الفترة الصباحية ويجب على المحضر الرجوع لتبليغه مرة أخرى.
وبطبيعة الحال _ لا تستنفذ هذه الأمثلة كافة حالات الإجتهاد الإنشائي والتي تتطلب دراسة شاملة لتمييز هذا النوع من الإجتهاد الهام والمؤثر عن سائر الممارسات القضائية . ولكن نرجو أن نكون قد ساهمنا في إلقاء الضوء على ظاهرة سنتابعها لاحقاً بمزيد من الدراسة التحليل.
هل وجدت هذه المقالة مفيدة؟ شاركنا رأيك…

:مقالات قسطاسية ذات علاقة
القضاء والإجتهاد.
إلزامية الإجتهاد والتدرج القضائي.